البنية السردية في طوق الياسمين

البنية السردية في رواية “طوق الياسمين”

تعتبر رواية “طوق الياسمين” للروائية السورية غادة السمان واحدة من أبرز الأعمال الأدبية التي تناولت موضوعات اجتماعية وإنسانية معقدة من خلال تقنيات سردية مبتكرة تساهم في إبراز الواقع العربي المعاصر. جاءت هذه الرواية لتسرد قصة شخصيات عاشوا في ظل أزمات تاريخية واجتماعية تمثل تحديات وجودية كبيرة. في هذا المقال، سنتناول البنية السردية لرواية “طوق الياسمين” ونتعرض لأدوات السرد وتقنياته التي استخدمتها السمان لتحقق عمقاً فنيّاً وجمالياً في عملها الروائي.

1. الزمان والمكان في الرواية

تتخذ رواية “طوق الياسمين” من الزمان والمكان مساحة مفتوحة للخيال والتأمل، حيث تمتزج أحداث الحكاية مع سياقات اجتماعية وتاريخية في الشرق الأوسط. المكان الرئيسي للرواية هو دمشق، تلك المدينة التي تحمل في جنباتها تاريخاً عميقاً ومعقداً، ما يجعل من السهولة للراوي أن ينسج من خلالها سرداً مرناً يمزج بين الواقع والحلم.

من جهة أخرى، نجد أن الزمان لا يتقيد بنطاق زمني ضيق، بل يتنقل بين فترات متباينة من التاريخ العربي، مشيراً إلى التغيرات الاجتماعية والسياسية التي مر بها المجتمع في هذه الحقبة. استخدام السمان للزمان والمكان في هذا السياق ليس فقط لتحديد مكان وقوع الأحداث، بل لتشكيل عالم معقد تسعى الشخصيات فيه للتعايش مع التغيرات الطارئة على محيطهم.

2. الأبعاد السردية وتقنيات السرد

تمكنت السمان من تقديم رواية لا تقتصر على حكاية واحدة، بل تحتوي على مستويات سردية متعددة تتنقل بين الماضي والحاضر، بين الواقع والخيال، مما يجعل من السهل على القارئ أن يتماهى مع أحداث الرواية. من أبرز هذه التقنيات:

• السرد من منظور الشخصية: تتيح السمان للقارئ فرصة التعرف على الأحداث من خلال عدة وجهات نظر شخصية. فهي لا تقتصر على الراوي العليم فقط، بل تقدم للحكاية من خلال مرشحات الشخصيات المختلفة، وهو ما يعزز التعددية ويعطي روايتها غنى في المعالجة الدرامية.

• التقنية الزمنية غير الخطية: تتنقل الرواية بين الأزمنة بصورة غير خطية، مما يخلق حالة من التوتر الدائم بين الماضي والحاضر، ويُظهر تأثير الأحداث التاريخية على حياة الشخصيات بشكل غير مباشر. على سبيل المثال، فإن القفز بين الأزمنة لا يتم بطريقة مفاجئة بل يكون محكوماً بمشاعر الشخوص وعواطفهم، مما يعكس حالة عدم الاستقرار التي يعايشونها.

• التداخل بين الواقع والخيال: تضع السمان القارئ أمام واقع اجتماعي مليء بالتعقيدات السياسية والتاريخية، ثم تخلق مساحات من الخيال، ليعود السرد في لحظات إلى التجسيد الشعري والتصورات الرمزية. هذه الحركة بين الواقع والخيال تساهم في خلق مساحة من الغموض والغنائية.

3. الشخصيات واستخدام السمان للأبعاد النفسية

تتميز شخصيات رواية “طوق الياسمين” بتعدد أبعادها النفسية والعاطفية، فهي ليست شخصيات مسطحة أو نمطية، بل هي شخصيات تزدحم بالتناقضات والتعقيدات النفسية التي تعكس الواقع العربي المعيش. تستعرض السمان في روايتها كيف يمكن للإنسان أن يكون مسلوب الإرادة بسبب الظروف الاجتماعية والسياسية، وكيف أن الطموحات الشخصية تصطدم بالواقع القاسي.

• النساء في الرواية: تقدم السمان صورة معقدة للمرأة في المجتمعات العربية، حيث تتعرض شخصيات النساء في الرواية لمشاعر الاغتراب والصراع الداخلي. تدور الكثير من الأحداث حول شخصية الأنثى التي تسعى للبحث عن هويتها وسط هذه التحديات. النسوة في الرواية لا يقتصرن على دور الضحية، بل يظهرن في أحيان كثيرة شخصيات قوية قادرة على خلق واقع جديد رغم القيود الاجتماعية.

• الشخصية المحورية: تمثل الشخصية الرئيسية في الرواية رمزاً للصراع الداخلي بين الحياة الواقعية والأحلام، بين الواقع السياسي والاجتماعي والخيال الذي يبنى على الأمنيات والرغبات. تبرز السمان في رسم هذه الشخصية بعمق نفسي، مما يجعلها محط اهتمام وتفاعل للقارئ الذي يلمس معاناتها وتطلعاتها.

4. الرمزية والأسلوب الأدبي

تستخدم السمان في روايتها الرمزية لتوصيل أفكارها العميقة والمجردة بطريقة غير مباشرة، حيث يُنظر إلى “طوق الياسمين” كرمز للحرية، الحب، والأمل في مواجهة الحروب والأزمات. الورد في الرواية ليس مجرد عنصر طبيعي، بل هو رمز للأمل والجمال الذي يسعى الإنسان العربي للحفاظ عليه رغم كل التحديات المحيطة. كما أن الطوق ذاته يشير إلى الدائرة المغلقة التي يعيش فيها أبطال الرواية، حيث يبدو أنهم محاطون بعوائق خارجية وداخلية تمنعهم من التحرر.

الأسلوب الأدبي لدى السمان يتميز بالشفافية والتكثيف، فهي تعتمد على الجمل القصيرة والأدوات البلاغية التي تقرب القارئ من عمق المشاعر الإنسانية، وتحرك المشاعر بأسلوب يعكس الحدة والغموض في آن واحد. يتسم أسلوب السمان بالرقة والعاطفية، ولكنه يتجنب السطحية، ليعكس حالة من القلق الوجودي التي تشغل ذهن الإنسان العربي المعاصر.

5. الحوار وصوت السرد

يُعتبر الحوار في “طوق الياسمين” من الأدوات الأساسية التي تستخدمها السمان لتطوير الشخصيات وبناء العلاقات بين الأبطال. تتسم الحوارات بالصدق والعفوية، حيث تجسد التفاعلات بين الشخصيات مشاعرها الداخلية بشكل عميق. هذه الحوارات ليست مجرد تبادل للكلمات، بل هي آلية من آليات كشف الصراع الداخلي والخارجي الذي يعيشه كل شخصية.

الصوت السردي في الرواية، الذي يتراوح بين السرد الشخصي والسرد الكلي، يعكس التوتر الداخلي للشخصيات ومواقفهم في عالم مليء بالمتغيرات. الصوت السردي في “طوق الياسمين” يتنقل بين الداخل والخارج، بين المكان والزمان، ليعطي القارئ إحساساً عميقاً بالانفصال والتشظي، كما لو أن العالم ذاته يتحطم ويتشكل مجدداً.

6. اللغة الأدبية والبلاغة

تتسم اللغة الأدبية في “طوق الياسمين” بالعذوبة والتكثيف، حيث تعتمد السمان على الأساليب البلاغية مثل التشبيه والاستعارة لتوضيح مشاعر الشخصيات. هذه اللغة الشعرية ليست مجرد أداة جمال، بل هي وسيلة للتعبير عن الصراعات النفسية العميقة التي يعايشها الأفراد في بيئاتهم الاجتماعية والسياسية. تتداخل الأبعاد الفنية في أسلوب السمان لتخلق نصاً يعبر عن العديد من الأبعاد الإنسانية المختلفة.

7. الخاتمة

بنية السرد في رواية “طوق الياسمين” تكتسب تنوعاً وثراءً من خلال تعدد الأصوات السردية، واستخدام الرمزية، والانتقال بين الأزمنة والأمكنة. تقدم غادة السمان في هذه الرواية لوحة أدبية غنية تلامس التحديات الاجتماعية والسياسية في العالم العربي من خلال شخصية نسائية قوية، وتصوير واقعي لآلام وآمال الإنسان في عصر مضطرب. الرواية ليست مجرد سرد لحكاية واحدة، بل هي رحلة في عوالم متعددة، مليئة بالرموز والتشويش والبحث عن الهوية في ظل الظروف المحيطة.